الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وهو، بالقياس إلى الفئة التي ينتسب إليها، فرد من الأمة المؤمنة. الأمة الواحدة، الممتدة في شعاب الزمن، السائرة في موكب كريم، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين.. ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان، فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة، العميقة الجذور، الممتدة الفروع، المتصلة بالسماء في عمرها المديد.. يكفي أن يشعر الإنسان هذا الشعور ليجد للحياة طعماً آخر، وليحس بالحياة إحساساً جديداً، وليضيف إلى حياته هذه حياة كريمة، مستمدة من هذا النسب العريق.ثم يتسع تصوره ويتسع حتى يتجاوز ذاته وأمته وجنسه الإنساني؛ ويرى هذا الوجود كله. الوجود الصادر عن الله، الذي عنه صدر، ومن نفخة روحه صار إنساناً. ويعرفه إيمانه أن هذا الوجود كله كائن حي، مؤلف من كائنات حية. وإن لكل شيء فيه روحاً، وأن لهذا الكون كله روحاً.. وأن أرواح الأشياء، وروح هذا الكون الكبير، تتوجه إلى بارئها الأعلى- كما تتوجه روحه هو- بالدعاء والتسبيح؛ وتستجيب له بالحمد والطاعة، وتنتهي إليه بالإذعان والاستسلام. فإذا هو كيان هذا الكون، جزء من كل، لا ينفصل ولا ينعزل. صادر عن بارئه، متجه إليه بروحه، راجع في النهاية إليه. وإذا هو أكبر من ذاته المحدودة. أكبر بقدر تصوره لضخامة هذا الوجود الهائل. وإذا هو مأنوس بكل ما حوله من أرواح. ومأنوس بعد ذلك كله بروح الله التي ترعاه. وعندئذ يشعر أنه يملك أن يتصل بهذا الوجود كله، وأن يمتد طولاً وعرضاً فيه؛ وأنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة، وأن يُنشئ أحداثاً ضخمة، وأن يؤثر بكل شيء ويتأثر.ثم يملك أن يستمد مباشرة من تلك القوة الكبرى التي برأته وبرأت كل ما في الوجود من قوى وطاقات. القوة الكبرى التي لا تنحسر ولا تضعف ولا تغيب.ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات. ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود، ومهمته الحقيقية في هذه الحياة. بوصفه قدراً من أقدار الله في الكون، يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء. ويمضي في رحلته على هذا الكوكب، ثابت الخطو، مكشوف البصيرة، مأنوس الضمير.ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله، ولحقيقة الدور المقسوم له، ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور. من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله، ولما يقع له. فهو يعرف من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا هو واجد هناك؟ وقد علم أنه هنا لأمر، وأن كل ما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر. وعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى، ولن يمضي مفرداً..ومن هذه المعرفة تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير؛ وعدم رؤية المطوي من الطريق، وعدم الثقة بالحكمة التي تكمن وراء مجيئه وذهابه، ووراء رحلته في ذلك الطريق.يختفي شعور كشعور الخيام الذي يعبر عنه بما ترجمته:
فالمؤمن يعرف- بقلب مطمئن، وضمير مستريح، وروح مستبشرة- أنه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخبير. وأن اليد التي ألبسته إياه أحكم منه وأرحم به، فلا ضرورة لاستشارته لأنه لم يكن ليشير كما يشير صاحب هذه اليد العليم البصير. وأنه يلبسه لأداء دور معين في هذا الكون، يتأثر بكل ما فيه. ويؤثر في كل ما فيه. وأن هذا الدور يتناسق مع جميع الأدوار التي يقوم بها كل كائن من الأشياء والأحياء منذ البدء حتى المصير.وهو يعلم إذن لماذا جاء، كما أنه يعرف أين المقر، ولا يحار بين شتى الفكر، بل يقطع الرحلة ويؤدي الدور في طمأنينة وثقة وفي يقين. وقد يرتقي في المعرفة الإيمانية، فيقطع الرحلة ويؤدي الدور في فرح وانطلاق واستبشار، شاعراً بجمال الهبة وجلال العطية. هبة العمر- أو الثوب- الممنوح له من يد الكريم المنان، الجميل اللطيف، الودود الرحيم. وهبة الدور الذي يؤديه- كائناً ما كان من المشقة- لينتهي به إلى ربه في اشتياق حبيب!ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق، قبل أن أحيا في ظلال القرآن، وقبل أن يأخذ الله بيدي إلى ظله الكريم.ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله فعبرت عنه أقول: فأنا أعرف اليوم- ولله الحمد والمنة- أنه ليس هنالك جهد غبين فكل جهد مجزي. وليس هناك تعب ضائع فكل تعب مثمر. وأن المصير مرض وأنه بين يدي عادل رحيم. وأنا أشعر اليوم- ولله الحمد والمنة- أن الكون لا يقف تلك الوقفة البائسة أبداً، فروح الكون تؤمن بربها، وتتجه إليه، وتسبح بحمده. والكون يمضي وفق ناموسه الذي اختاره الله له، في طاعة وفي رضى وفي تسليم!وهذا كسب ضخم في عالم الشعور وعالم التفكير، كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب، فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثر والتأثير.والإيمان- بعد قوة دافعة وطاقة مجمعة. فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل، ولتحقق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة. كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها، وتدفعها في الطريق..ذلك سر قوة العقيدة في النفس، وسر قوة النفس بالعقيدة. سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض. وما تزال في كل يوم تصنعها. الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم، وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية في العمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى؛ وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد مؤمن. وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعاً، ولكنها القوة الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح، والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضعف.تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة، ولا تعتمد على التهاويل والرؤى. إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة. إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخفية، وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة، وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة، بقوة اليقين في النصر، وقوة الثقة في الله. وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء، وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه، وتجمع طاقاته وقواه كلها، وتدفعها في اتجاه. ومن هنا كذلك قوتها. قوة تجميع القوى والطاقات حول محور واحد، وتوجيهها في اتجاه واحد، تمضي إليه مستنيرة الهدف، في قوة، وفي ثقة، وفي يقين.ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهره وخافيه. .سورة ق: .تفسير الآيات (1- 45): {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة.. وإن لها لشأناً..إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقاً كاملاً شاملاً. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبداً، ولا تغفل من أمره دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقه كثيراً ولا قليلاً. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال.وكل هذه الحقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة؛ وتهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب!وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع.. {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}..وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال، إشعاعاً مباشراً للحس والضمير.فلنأخذ في استعراض السورة بذاتها.. والله المستعان..{ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج}.{كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع كلٌ كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}.هذا هو المقطع الأول في السورة. وهو يعالج قضية البعث، وإنكار المشركين له، وعجبهم من ذكره والقول به. ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده. إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلاً إلى الحق، ويقوّم ما فيها من عوج؛ ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود. ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث. وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب.. وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب!وتبدأ السورة بالقسم. القسم بالحرف: قاف وبالقرآن المجيد، المؤلف من مثل هذا الحرف. بل إنه أول حرف في لفظ قرآن..ولا يذكر المقسم عليه. فهو قسم في ابتداء الكلام، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام. فالأمر جلل، والله يبدأ الحديث بالقسم، فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء. إذ يضرب بعده بحرف {بل} عن المقسم عليه- بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب- ليبدأ حديثاً كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج:{بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد}.بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. وما في هذا من عجب. بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقبله الفطرة السليمة ببساطة وترحيب. الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحداً منهم، يحس بإحساسهم، ويشعر بشعورهم، ويتكلم بلغتهم، ويشاركهم حياتهم ونشاطهم، ويدرك دوافعهم وجواذبهم، ويعرف طاقتهم واحتمالهم، فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه؛ ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح؛ ويبلغهم التكاليف التي يرفضها الاتجاه الجديد، وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف.
|